كل منا يمر بابتلاءات في حياته.؛ في صحته؛ في أمنه؛ في دينه؛ في عمله؛ في زوجه وأبنائه؛ وكثير منا حين يصيبه البلاء يتأثر نفسيا أكثر من الأثر البدني
الثبات النفسى
فالبعض تكون عنده رغبة في الانتقام ممن ظلمه؛ والبعض تكون عنده رغبة في التشفي ممن سكت عن حقه؛ والبعض يكره فئة بعينها رغم أن من ظلمه فرد واحد فقط؛ والبعض يريد الانعزال عن المجتمع والدنيا كلها؛ والبعض يريد أن يظهر قوته وماله وجاهه ويتكبر به بعد أن تحول حاله؛ والبعض يتفلت من واجباته في الحياة؛ بحجة أنه مبتلي ومش فاضي ومش مركز دلوقتي
امرأة ظلمها زوجها؛ تقول خلاص أنا كرهت صنف الرجاله كلهم ظلمه ومفتريين
رجل ابتُلىَ في أمنه في بلد ما؛ خلاص أنا كرهت البلد باللي فيها إياك تولع بهم
واحد ابتلى في عمله وتآمر عليه زملاؤه؛ خلاص مش عاوز أشتغل في المكان ده
الثبات النفسى فى سورة يوسف
القرآن يعلمنا من خلال سورة يوسف الثبات النفسي عند الابتلاءات والصدمات وعند الخروج منها؛ فلا تتشوه نفسيتك ولا تتغير أخلاقك ومبادؤك ولا تهتز ثقتك بنفسك
إذا فكرنا في حجم وكمية الابتلاءات التي تعرض لها يوسف عليه السلام؛ وكيف خرج منها جميعا سليم النفس لتعجبنا من ذلك؛ ولانبهرنا بهذه الشخصية القوية العزيزة الحكيمة
تأمل كمية الصدمات والابتلاءات المتتابعة التي مرت بيوسف عليه السلام
طفل جميل برئ يتآمر عليه أقرب الناس له؛ وأولاهم بحمايته واحتضانه في هذه السن؛ فيحرمونه من أبيه وأمه (اختطاف) ويلقون به في بئر في الصحراء (محاولة قتل)؛ تخيل يوسف عليه السلام وهو طفل يسحبه إخوته وهو يقاومهم ليقذفوا به داخل البئر وتخيل نفسيته وهو داخله وحيداً؛ لا يدري ما مصيره؛ وما الذنب الذي اقترفه ليفعل به إخوته هذه الجريمة
ثم بعد أن نجاه الله؛ إذ به يباع في السوق بثمن زهيد وهو نبي من سلالة أنبياء (تبدُّل الحال)
ثم هو يكبر ويصير شاباً؛ فيتعرض للظلم من المرأة التي يعمل في بيتها؛ وتدعوه إلي الفاحشة فيأبي وهو ثابت مستعصم بالله؛ فتفتري عليه كذباً أنه هو من أراد بها السوء (تشويه السمعة)؛ وعلي الرغم من ظهور براءته؛ يصدر الأمر بسجنه ظلماً وهو لم يرتكب أي خطأ (ظلم)؛ ويمكث في السجن بضع سنين (ضياع سنوات الشباب)
تخيل
إنسان يتعرض لهذه الابتلاءات والصدمات في حياته ومنذ طفولته؛ ولا يدري ما الخطأ الذي ارتكبه ليتآمر عليه الناس بهذا الشكل؛ كيف تكون نفسيته وكيف يكون كرهه لكل من ظلمه وتآمر عليه؛ وكيف تكون دوافعه للانتقام من كل من ظلمه؛ وكيف تكون نظرته للمجتمع وعداؤه له
ثم تكون المفاجأة أن هذا الإنسان يخرج من هذه الابتلاءات
1_ في غاية النقاء فيقدم العون لمجتمع ظلمه وسجنه بدون حتي أن يشترط عليهم أن يخرجوه أولاً من سجنه ويكون سبباً في نجاتهم من مجاعة طاحنة (( قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ ٤٧ ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ ٤٨ ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ))
2_وفي قمة الأخلاق والتسامح؛ فلم يعاتب إخوته ولو بكلمة وهو في موقف القوة وهم في موقف الضعف (( قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ ءَاثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَإِن كُنَّا لَخَٰطِِٔينَ ٩١ قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ٩٢))
3_وفي منتهي عزة النفس؛ و الاعتداد بها وعدم الاهتزاز؛ فلما جاءه رسول الملك ليخرجه من السجن رفض أن يخرج وسمعته لم تُبَرأ بعد ((وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ ٥٠ قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ))
4_وفي منتهي الصلابة والثبات ومعرفة قدراته؛ وما المكان الذي يصلح له؛ ((قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ))
5_وفي منتهي الحكمة والقدرة علي التفكير والتدبير؛ ليخرج بفضل الله ببلد تمر بأزمة ومجاعة؛ إلي بر الأمان بخطة اقتصادية محكمة
ولو فكرنا كيف لإنسان يتعرض إلي صدمات قوية؛ متتابعة كهذه؛ وفي مرحلة مبكرة من حياته؛ ثم هو يخرج منها بهذه الأخلاق والقوة والثبات والعلم والحكمة؛ لكانت الإجابة من نفس السورة
1_الفضل لله أولاً وآخراً
وكان اعتراف يوسف عليه السلام بهذا الفضل من الله طوال السورة؛ ((وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ))؛ ((ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ))؛ ((قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ))؛ ((رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ))
2_تعليم الطفل العقيدة الراسخة منذ صغره
فيتعلم من ربه؛ وما أسماؤه؛ وصفاته وما دينه؛ وما هدفه ودوره في الحياة فسوف تنفعه هذه التربية في وقت ما في حياته بإذن الله؛ وكم نحتاج إلي تلك التربية في هذا الزمان؛ فعلي الرغم من قصر الفترة التي قضاها يوسف مع أبيه في طفولته؛ وعلي الرغم من أن السورة قصت علينا الحوار بين يوسف ويعقوب عليهما السلام في ثلاث آيات فقط؛ إلا أنه ردد نفس كلمات أبيه في مراحل أخري من حياته وكأنها نُقشت في قلبه وعقله؛ ((قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡيَاكَ عَلَىٰٓ إِخۡوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٞ مُّبِينٞ))؛
فعلَّمه أن عدوه الرئيسي هو الشيطان وليس إخوته؛ فكان رد يوسف عليه السلام في آخر السورة ((مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ))؛ وكما أخبره أبوه في بداية السورة ((وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ)) قال يوسف عليه السلام لصاحبيه في السجن ((ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ))؛ وقال أيضاً في آخر السورة ((رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ))
وكما قال له يعقوب عليه السلام ((وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ))؛قال يوسف لصاحبيه في السجن ((وَٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ)) وكما قال له أبوه (( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ)) قال يوسف في آخر السورة ((إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ))
3_أن يكون الإنسان صاحب هدف وهمة عالية وله غاية عظيمة
يسعي إليها ويركز عليها تركيزاً شديداً؛ فتتلاشي بجانبها توافه الحياة وابتلاءاتها؛ فهو لن يضيع وقته في الرد علي كل من يسيئ إليه؛ ولن يستغرق في التفكير في المصيبة التي تعرض لها؛ ولن يقضي عمره مكتئباً علي أيامه التي سُلِبت فيها حريته وأمنه؛ ولن تهتز ثقته بنفسه لأن هناك من افتري عليه وشوه سمعته؛ ولن يُثْقِل قلبَه بالرغبة في الانتقام من كل من ظلمه؛
بل هو قويٌ بالله؛ صاحب رسالة في حياته؛ يستغل كل موقف يمر عليه وكل نعمة أو مزية أكرمه الله بها ليحقق بها غايته؛ يعرف شرف وقته وأنفاسه فلا يبذلها إلا فيما ينفعه في دينه ودنياه؛ ولن يطيل الحديث عن قصص الظلم والمحن والمؤآمرات التي تعرض لها؛ لأن وقته مشغول بالسعي نحو هدفه؛ فيوسف عليه السلام مسجون مظلوم ولا يدري متي يخرج من سجنه؛ ولكنه يحسن إلي من معه في السجن ((إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ)) ويحمل همَّ الدين فيتكلم عن دينه وعقيدته بمنتهي العزة والوضوح ((إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ ٣٧ وَٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ عَلَيۡنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ))
ويدعو من معه في السجن إلي توحيد الله؛ فلم يتخلَّ عن دوره في الحياة ونصرته لدينه حتي وهو في قمة الابتلاء ((يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٣٩ مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ))
قال الله عز وجل للنبي صلي الله عليه وسلم ((وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا)) ركز في هدفك
وبذلك القرآن يعلمنا أن نكون أصحاب نفوس ثابتة؛ مرنة مع الابتلاءات؛ لا تتشوه ولا تتغير مع المصاعب والصدمات؛ وليس أصحاب نفوس ونفسيات هشة؛ تكتئب مع كل ابتلاء وتهتز مع كل صدمة وتنعزل مع كل أذي
No comments: