تقييم البشر والحضارات
ما أجمل أن يتحرك الإنسان في الحياة ويضبط تفكيره ونظرته علي أسس صحيحة ثابتة
وأن يكون لديه ميزان لتقييم الأمور وفق موازين دقيقة ثابتة فلا يتشتت ولا يتحير ولا تتغير قيمه ومعاييره مع تقلبات الحياة
والقرآن يعلمنا ويضع لنا الموازين الدقيقة التي يُقَيَّم بها البشر والدول والحضارات... فإنك لو تأملت المعايير البشرية للتقييم لوجدتها في الغالب معايير مادية بحتة كالتفاضل علي حسب المال والغني أو الوظيفة والمكانة الاجتماعية أو جمال الشكل وتناسق الجسم علي مستوي الأفراد... أو القوة العسكرية والاقتصادية أو التطور العلمي والتكنولوجي أو توفر وسائل الراحة والترفيه علي مستوي الدول والمجتمعات
معايير القرآن للتفاضل:
ولكن... الإسلام يضع لنا معايير أخري مختلفة تماماً عن المعايير البشرية
كم قص علينا القرآن قصصاً لأشخاص كانوا ناجحين بمقاييسنا البشرية ولكن كانت نهايتهم ومصيرهم الهلاك والعذاب... فقارون كان ثرياً ثراءاً فاحشاً... رجل أعمال ناجح... (( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ))... ومع ذلك خسف الله به الأرض (( فخسفنا به وبداره الأرض ))
وفرعون كان ملكاً ذا سلطان وقوة (( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي )) ومع ذلك أغرقه الله هو وجنوده (( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ))
وعلي مستوي الدول والحضارات قص علينا القرآن مصير حضارات كانت علي مستوي عالٍ من التقدم المادي ولكن الله أهلكهم لما غفلوا عن طريق الله وكذبوا أنبياءه ورسله
((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) ))
وتأمل كيف علق الهدهد علي حال مملكة سبأ وما رآه عندهم من تقدم عظيم ولكنه لم ينس رغم ذلك أنهم أشركوا بالله عز وجل... (( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) ))
وكان تقييم صاحب الجنتين لحاله وحال صاحبه المؤمن قائما فقط علي حالهما المادي الدنيوي
نظر إلى جنتيه بثمارهما ونخلهما والنهر الذي يجري فيهما فأعجبه ما عنده من الدنيا
فظن أنه أفضل من صاحبه عند الله فقال بمنتهى الكبر (( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا )) ... إذن أنا أفضل منك
هذه النظرة الخاطئة للأسف انتقلت إلي كثير من المسلمين في عصرنا فامتلأت قلوبهم بالشك في دينهم لأنهم رأوا من هم علي غير الإسلام (( أكثر مالا وأعز نفرا )) ...
ولسان حالهم لو كنا علي الحق فلماذا لسنا متقدمين وأغنياء مثلهم ؟؟؟
فكان رد هذا الرجل المؤمن علي صاحبه الكافر في أول كلمة بعد أن ألقي شبهته فقال المؤمن (( أكفرت )) ؟؟؟ ... وماذا تساوي أموالك وأملاكك وجاهك وعلمك إن كنت ضللت عن خالقك ومولاك ؟؟؟ ... وما قيمة حياتك إن كنت تأكل وتشرب وتتزوج وتتنعم بحياة كحياة الأنعام فلا تعرف لك خالقا ولا دستورا ولا مآلا ؟؟؟
وكانت النظرة الخاطئة الدائمة... (( وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ))... نحن أغني وأقوى إذن نحن أحب وأقرب إلي الله
ولكن رد القرآن... ((وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ))
علمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم تلك النظرة والقاعدة الصحيحة حين دخل عمر رضي الله عنه فوجده نائما على حصير قد أثر في جنبه الشريف صلي الله عليه وسلم فبكي عمر وقال : ثم رفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئاً يردّ البصر غير أُهبة ثلاثة
فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وُسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله
وكان متكئا فقال: ( أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا ) متفق عليه.
وفي رواية أخرى : (( أما ترضي أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ))
المقياس الحقيقي:
هذا هو المقياس الحقيقي ... بالإيمان ترتفع وبالدين تسمو وبالإسلام تعلو ... وانظر كيف علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة في موقف عملي... فعن سهل بن سعد الساعدي : أنه مر رجل من فقراء المسلمين على النبي يوما فقال النبي لأصحابه: ( ما تقولون في هذا ؟ ) ، فقالوا : رجل من فقراء المسلمين ، هذا والله حرى إن خطب ألا يزوج ، وإن شفع ألا يشفع ، ثم مر رجل آخر من الأشراف ، فقال : ( ما تقولون في هذا ؟ ) ، قالوا: رجل من أشراف القوم هذا والله حرى إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع ، فأشار النبي على الرجل الفقير الأول فقال : ( والله هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا )
فكن عزيزا بدينك حتي وإن كنت فقيرا أو ضعيفا أو محتلا (( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )) ... فعند نزول العقاب تنكشف الحقائق ويكون لسان أولئك وحسرتهم (( يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ))
وقد وضع لنا الإسلام المقياس الثابت إلي يوم القيامة في قول النبي صلى الله عليه وسلم ... (إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لا يُحِبُّ وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ)
ليست دعوة للدروشة ولترك الدنيا والانعزال عنها ... بل لضبط نظرتنا لها ولوضع الأمور في نصابها الصحيح

No comments: